في فكرة الجامعة
واحد من آباء الجامعة الحديثة كان يقول: «كرموا المعلمين؛ احترموا حريتهم؛ شجعوا جهودهم كافئوا همتهم وسيتكوّن سريعا معلمون جيدون وأساتذة متميزون. لكن هنالك حيث لا حرية لا تأملوا بتولّد موهبة. الرداءة وحدها هي التي تقبل وتنمو في ظل العبودية في ظل الحرية يمكن للجامعة أن توفّر للمجتمع حلولا بمدرّسيها وطلابها حلولا لا تغلق المنافذ عليهم جميعا، حلولا لو تخلص المجتمع السياسي من ارتهانه ومن ضيق أفقه ولو توجه - وجهة حداثة مغايرة - آفاقها دون سقوف ميزانها سكن وليس تعوّدا، إيقاعها صور جديدة للزمن وللمواقيت لا يسوّرها انتصار الليبرالية ولا هيمنة السوق، نسترجع فيها أجسادنا وحياتنا وعالمنا ومخيالنا ونبدع فيها تنضيدات جديدة منتجة لذاتيات مولّدة لوقائع جديدة لرآها قائمة قدامه في النقل، في نتاجات التخييل في الاهتمام بالشيخوخة في علم الفلاحة، في التغذية، في التخطيط والتسيير في المناخ في جودة العيش في أركيولوجيا التراث الذي ليس ميراثا حصيلته ،مذبحة في جنيالوجيا الصناعة وتقريظ الأشياء الصغرى في الألسن والترجمة في دراسات الشغل، بل وحتى في التساؤل عن نهاية العمل، في البحث وفي توفير أسبابه ومقتضياته في تحيين سؤال الإنسان وفكرته فمنذ أكثر من خمس مائة سنه كان أرسموس يقول: «الإنسان لا يولد إنسانا بل يصبح إنسانا (homo fit, non nascitur والجامعة ليست مصنعا بل هي محل وفرصة للناس حتى يصبحوا ما سيكونون وتأكيد حقوقه خارج دائرة اللاهوت السياسي وإعادة النظر في مفهوم السيادة وغلبة اللاإنساني. فإذا كان ما زال ثمة إنسانية في ما وراء اللاإنساني، حينئذ ينبغي أن تكون ثمة إتيقا ممكنة حتى في آخر عتبة ما بعد تاريخية يبدو أن الإنسانية الغربية والعالمية جملة] غاصت فيها، مرحة ومندهشة في نفس الآن». من مقتضيات هذه الإتيقا، بل قوامها هو المحبة القائمة في ما وراء الخير والشر (نيتشه في ما وراء الخير والشر، (153)، هي فرح لا يمنحه القبح. المحبة قوّة في مواجهة الخبث والغباوة والتهافت، قوّةً تكثف في الدقيقة الواحدة أياما كثيرة ذلك هو ما قالته جولييت لروميو الذي أُجبر على مغادرة فرون (Verone) وفي كل دقيقة باب ضيقة يطلع منها المحال الممكن. المحبة إنتاج للحق من حيث هي التزام بالفكرة والفلسفة تحمل المحبة في اسمها، محبة محمولة على سنان الموت. سقراط مات محاطا بالذين يحبهم والذين أحبوه مجتمعين في قربان أسكلبيوس (وصية سقراط لكريتون تقديم ديك لأسكلبيوس). يمكن للموت أن يمنع ما يحدث من الوصول إلى منتهاه لكنه ليس يمكنه أن يمنع المعاودة. فالموت لا شيء إذا أحببنا ما يأتي بعدنا»، ومن يأتي بعدنا إلى الجامعة ليعاود فكرتها وفق دستورها الذي ذكرنا.
الفيلسوف والجامعي على العموم كما مالك البيت لهم دائما إصلاحات للإنجاز Wilhelm Buch). إصلاحاتٍ حرّةً، لذلك ليس لنا أن نزهد في الحرية اليوم لأنا قد لا نلتقيها غدا. إذا كانت السلطة هي ما يعيق أمل السياسة وإذا كانت السياسة تنهد إلى حرفها اللاسياسي الذي هو الحرية فإن ثقافة الزور والبهرج هي ما يعيق الفكرة والحرية كلتيهما. وعليه، فإن عدم الزهد هذا هو مبادأة الفكرة التي تحتنا على البدء. البدء في تدبّر الواقع بشكل مغاير، البدء في مقاومة انغلاق المعنى، البدء في الانفتاح على التعبيرات الرمزية المغامرة حتى لا يتحوّل التأويل إلى تقويل، البدء في زرع الرغبة في العقل البدء بإدراك أنه بمقدورنا أن نبدأ.
إجمالا أيها الجمع الكريم، المسألة مسألة أبواب كما يقول باشلار، وحبذا لو كانت حكايتنا حكاية كل الأبواب التي أغلقنا وفتحنا وكل الأبواب التي نريد إعادة فتحها ... عم تفتح وباتجاه من تفتح هذه الأبواب؟ نأمل أن لا تفتح على بيت الطاعة.